يتوجه الأطفال بحقائبهم البالية عبر طريق ترابي مليء بالحفر في أحد المخيمات العديدة في شمال سوريا، أحذيتهم مغطاة بالغبار بعد رحلة طويلة إلى المدرسة، يمرون من جانب صف من ورش الإصلاح، حيث تتناثر المحركات والآلات، وعلى الجانب الآخر، يسرع مجموعة من الفتية بقمصان ملطخة بالزيت ووجوههم مغطاة بالسُّخام – ليس إلى المدرسة، بل إلى العمل.
مع بداية العام الدراسي 2024-2025 في شمال سوريا، يعود الطلاب إلى مدارسهم وسط تدهور مستمر في قطاع التعليم الذي يكافح للبقاء بسبب الهجمات المتكررة، والتحديات الاقتصادية، والضغوط الاجتماعية.
إرث من العنف
تم تدمير آلاف المدارس، ولا تزال مئات منها خارجة عن الخدمة، وكشف تقرير حديث صادر عن الدفاع المدني السوري، المعروف أيضًا باسم “الخوذ البيضاء”، أنه بين عامي 2019 و2023 تعرضت 172 مدرسة ومؤسسة تعليمية شمال غرب سوريا لهجمات، وفي العام الماضي وحده، اُستُهدفت 29 مدرسة شمال سوريا، 8 منها منذ يناير، بعض هذه الهجمات وقعت خلال ساعات الدوام المدرسية، ما أدى إلى إصابة طلاب ومعلمين، وفي مناطق مثل ريف إدلب الشرقي غرب حلب، فغالبًا ما يتردد الأهالي لإرسال أبنائهم إلى المدرسة خوفًا من وقوع هجمات جديدة.
“الخوف على سلامة الأطفال”
يقول حسين الخالد، والد لطفلين في سن المدرسة، لموقع L24: “أصبح الخوف على سلامة الأطفال هاجسًا يوميًا، خاصة مع تكرار حوادث العنف بالقصف قرب المدارس، دفعتنا هذه المخاوف إلى إعادة النظر في أولوياتنا، حيث أصبحت مسألة البقاء والبحث عن ملاذ آمن أكثر ضرورة من متابعة التعليم.”
رغم استمرار عمل بعض المؤسسات التعليمية، فإن الكثير منها يواجه خطر القصف المستمر، وفقًا للخوذ البيضاء، تؤدي هذه الهجمات المتكررة إلى تعطيل حياة الأطفال وتهديد مستقبلهم، وخلال السنوات الثلاث الماضية، قُتل أكثر من 55 معلمًا بسبب الهجمات العسكرية، بينما غادر آخرون المهنة بسبب تدني الرواتب وظروف العمل غير الآمنة، أدى هذا النقص في الكوادر المؤهلة إلى وضع ضغوط كبيرة على النظام التعليمي، حيث لا تزال 891 مدرسة شمال غرب سوريا خارج الخدمة.
الخبز أم الكتب؟
تفاقمت أزمة التعليم مع ارتفاع معدلات التسيب من المدارس، وتقدّر “منسقو استجابة سوريا”، وهي مجموعة مراقبة إنسانية، إن 386 ألف طفل شمال غرب سوريا خارج المدارس، بينهم 84 ألف طفل يعيشون في مخيمات النزوح، وتتنوع الأسباب بين الفقر والمسافات الطويلة التي يجب على الأطفال قطعها للوصول إلى مدارس عاملة.
كشف “أحمد الحسن”، مدير التربية في إدلب التابع لحكومة الإنقاذ السورية (SSG)، لموقع “L24” عن الحالة المتدهورة للقطاع التعليمي قائلاً: “تستعد المدارس لاستقبال حوالي 650 ألف طالب في مراحل التعليم العام ما قبل الجامعي، وأطلقت المديرية حملة “العودة إلى المدرسة” بالتعاون مع الجهات المعنية والمنظمات، هناك حاجة ملحّة للبنية التحتية، وتجديد أو استبدال الخيام التي تشكل 10% من الفصول الدراسية، وتوفير 650 ألف كتاب مدرسي”.
وأوضح الحسن أن “الفقر يلعب دورًا كبيرًا في دفع الأطفال إلى سوق العمل على حساب ترك المدرسة، كما إن الحاجات الأساسية للمدرسة، مثل اللوازم المدرسية والكتب، تمثل عبئًا ماليًا إضافيًا على أسر الطلاب”.
الضغوط الاقتصادية تدفع الأطفال إلى سوق العمل
تجبر المصاعب الاقتصادية العديد من الأطفال على دخول سوق العمل لدعم أسرهم، وقال لؤي، وهو معلم لغة إنجليزية في المنطقة، لموقع “L24”: “لا يتمكن معظم الطلاب من حضور المدرسة في مبانٍ مناسبة، بل يتلقون تعليمهم في خيام. هذا يخلق بيئة تعليمية هشة تعيق العملية التعليمية، كما أن معظم المعلمين يبحثون عن وظائف أخرى بسبب تدني الرواتب”.
وأشار “لؤي” إلى أن الضغوط الاقتصادية تؤثر بعمق على أسر مثل أسرته، قائلاً: “بسبب صعوبة الأوضاع المعيشية، أصبح من الضروري أحيانًا السماح للأطفال بالعمل للمساهمة في دخل الأسرة، نحن نواجه معضلة مؤلمة تتمثل في الاختيار بين إرسال الأطفال إلى المدرسة أو تأمين لقمة العيش”. ويضيف أن العائلات تضطر للتخلي عن التعليم ليس فقط لفقدان دخل عامل إضافي، بل أيضًا لتجنب تكاليف الرسوم واللوازم المدرسية، مما يؤدي إلى زيادة نسبة التسرب.
العمل الزائد والأجور المتدنية
في كل من مناطق الحكومة السورية المؤقتة (SIG) والمناطق التي تديرها حكومة الإنقاذ السورية (SSG)، نظم المعلمون احتجاجات بسبب تدني الأجور وسوء ظروف العمل، استقال أكثر من 500 معلم في المناطق الخاضعة لإدارة SIG بين عامي 2023 وفبراير 2024، وظهرت نفس الإحباطات في إدلب.
وسلط “لؤي” الضوء على الصعوبات التي يواجهها المعلمون قائلاً: “التحديات الرئيسية التي تواجهنا تشمل الرواتب المتدنية وغير المنتظمة، وعدم وجود بيئة تعليمية مناسبة، وغياب الاحتياجات الأساسية مثل القرطاسية، يحتاج المعلمون أيضًا إلى تقدير اجتماعي، إذ يُنظر إليهم حاليًا على أنهم من الطبقة الفقيرة، إذا توفر دعم مالي منتظم، فإن ذلك سيسهم في تحسين جودة التعليم”.
ووصف “مؤيد الطويل”، مدير إحدى المدارس في المناطق المحررة، كيف أن نقص الوسائل التعليمية الحديثة يزيد من تعقيد العملية التعليمية، وقال لموقع “L24”: “نحن نفتقر إلى الموارد مثل الوسائل البصرية التي تساعد المعلمين على توصيل الأفكار للطلاب وضمان فهمهم للمعلومات”، وأضاف أن المدارس “تفتقر إلى العديد من الأدوات الأساسية، من الرسوم البيانية إلى أجهزة الكمبيوتر، من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية”. كما أشار إلى أن الكتب المدرسية أصبحت بالية لدرجة أن بعضها غير مقروء، ما يصعّب استفادة الطلاب والمعلمين منها بشكل كافٍ.
دعوات لتحسين الرواتب والبنية التحتية
أكد المدير “حسن” على أهمية توفير دعم مالي مستقر لرواتب المعلمين وتحسين البنية التحتية، وقال: “إذا تم تأمين البنية التحتية المناسبة، وبيئة آمنة للأطفال، وتوفير الكتب المدرسية، إلى جانب دعم مالي ثابت لرواتب المعلمين، فسيؤدي ذلك إلى استقرار واستمرارية العملية التعليمية.”
بحلول سبتمبر، تراوحت رواتب المعلمين في هذه المناطق بين 85 و150 دولارًا شهريًا، وهو مبلغ غير كافٍ لتلبية الاحتياجات الأساسية، حيث يبلغ متوسط إيجار السكن وحده بين 45 و100 دولار، نتيجة لذلك، يضطر العديد من المعلمين إلى البحث عن وظائف أخرى أو العمل في عدة مدارس ومؤسسات لزيادة دخلهم، مما يزيد من الضغط على نظام التعليم المترهل أصلًا.
التعليم على حافة الخطر
مع بداية العام الدراسي الجديد في شمال سوريا، يزداد الشعور بالإلحاح والإحباط، بالنسبة للعديد من الأسر، يُنظر إلى التعليم على أنه الأمل الأخير في مستقبل أفضل، لكن التحديات تبقى هائلة، لا يزال قطاع التعليم يعاني من نقص كبير في التمويل، إذ لم يصل سوى 32% من الدعم المطلوب خلال العام الماضي، ما أدى إلى اكتظاظ الفصول الدراسية وزيادة الاعتماد على التعليم الخاص.
وقال “خالد”: “يمكن أن تُسهم عدة عوامل في تسهيل إبقاء الأطفال في المدارس، مثل تقديم دعم مالي للأسر ذات الدخل المحدود، وتوفير اللوازم المدرسية بأسعار مدعومة، وضمان الوصول الآمن إلى المدارس القريبة.”
ومع استمرار الحرب في سوريا، يبقى مستقبل جيل بأكمله على المحك، وبدون جهود لتحسين الأوضاع، تظل آفاق الشباب السوريين غامضة، وعبّر لؤي عن ذلك بوضوح قائلاً: “المعلمون والطلاب بحاجة إلى الدعم – ماليًا وتعليميًا ونفسيًا – إذا كنا نريد بناء مستقبل لهؤلاء الأطفال.”