امتناع نظام الأسد عن الانخراط في الصراع المتصاعد بين إسرائيل وحزب الله يعكس اتساع الفجوة بين دمشق وما يُعرف بـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران، ورغم تحالفاته القديمة مع حزب الله وطهران، التزم النظام في دمشق الصمت الملحوظ تجاه العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ولبنان، وما يلفت النظر بشكل أكبر هو امتناعه عن اتخاذ خطوات ولو رمزية لدعم قضية “المقاومة”، سواء من خلال التصريحات العلنية أو جهود التعبئة أو المشاركة المباشرة في الصراع.
استجابة متحفظة
فشل النظام في إصدار موقف قوي داعم تجاه الحرب المستمرة في غزة منذ ما يقرب من عام، أو الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على قادة حزب الله في جنوب لبنان، يُعدّ مؤشراً واضحاً، فعلى مدار العام الماضي، كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة محل إدانة حادة من بقية أعضاء “محور المقاومة”، بما في ذلك إيران وحزب الله وفصائل فلسطينية مختلفة، ومع ذلك، اكتفى نظام الأسد – الذي كان يوماً ما مدافعاً وإن بغير صدق، عن القضية الفلسطينية – بدعم خطابي خافت.
يشير “خالد خليل”، وهو كاتب ومحلل سوري، إلى أن صمت دمشق يثير الانتباه، لا سيما بالنظر إلى عادة النظام السابقة في إطلاق تصريحات تتماشى مع الخطاب المناهض لإسرائيل، ويقول خليل: “قبل خمسة أيام من اغتيال قادة حزب الله في ضواحي بيروت، لم يصدر بشار الأسد أي بيان أو تعليق، متجاهلاً الهجمات في جنوب لبنان كما فعل طوال الحرب المستمرة في قطاع غزة”، وقد فُسّر هذا الامتناع المتعمد عن الرد من قِبل كثيرين على أنه رسالة بحد ذاته.
تحول استراتيجي واضح
تعكس هذه المواقف الأخيرة تحولاً استراتيجياً جلياً، فقد اعتاد النظام في الماضي أن يفاخر بكونه محوراً للمقاومة ضد إسرائيل والنفوذ الغربي في المنطقة، لكن دمشق باتت غير مستعدة للمجازفة بإثارة تصعيد عسكري إضافي مع إسرائيل، خاصة في ظل وضعها الداخلي الهش واعتمادها الكبير على قوى خارجية مثل روسيا وإيران لضمان بقائها.
منع التجنيد
تعززت رغبة النظام في تجنب المشاركة في حرب حزب الله ضد إسرائيل عبر رفضه السماح للحزب بتجنيد مقاتلين سوريين، ورغم الدور المحوري الذي لعبه حزب الله في الدفاع عن نظام الأسد خلال الثورة، أغلق النظام الباب أمام أي جهود لتجنيد مقاتلين لتعزيز الجبهة الجنوبية للحزب في لبنان.
شهدت دمشق تطوراً لافتاً تمثل في إغلاق مكتب تجنيد تابع لحزب الله بالقرب من مقام السيدة زينب، بأمر من السلطات السورية، وبحسب “خالد خليل”، أصدر اللواء “كفاح ملحم”، رئيس مكتب الأمن الوطني، تعليماته بإغلاق المكتب فوراً، ما أوقف محاولات الحزب لتجنيد متطوعين سوريين للقتال ضد إسرائيل، وأوضحت دمشق أن هذا القرار جاء بسبب “مخاوف تتعلق بالأمن الداخلي” ولتجنب “فتح جبهة جديدة مع إسرائيل”.
كتب خليل: “زار ضباط من مكتب الأمن الوطني “الحاج أبو علي ياسر”، القيادي المسؤول عن مكتب التجنيد، لإقناعه بتجنب أي نشاط علني للتجنيد”، ويكشف هذا القرار عن نهج النظام الحذر، إذ يسعى لتجنب التورط في مواجهة مع إسرائيل قد تهدد الاستقرار الهش الذي عمل على الحفاظ عليه خلال السنوات القليلة الماضية.
تحالف غير متبادل
كان تدخل حزب الله في سوريا منذ عام 2011 حاسماً لبقاء الأسد، إذ لعب مقاتلوه دور القوات الصادمة في بعض المعارك الأكثر حسماً وارتكبوا مجازر مروعة، ورغم هذه الشراكة الحاسمة، يبدو أن النظام بدأ يبتعد تدريجياً عن طموحات حزب الله الإقليمية، كما يوضح خليل: “بالرغم من الشراكة الاستراتيجية بين النظام وحزب الله في قمع الثورة السورية، فشل الأسد باستمرار في تقديم نفس المستوى من الدعم والمساندة للحزب، سواء داخل سوريا أو خارجها”.
نمط من التقاعس المتكرر
تشير هذه التحولات إلى نمط متزايد من عدم الفعل فيما يتعلق بدعم دمشق لحزب الله في صراعه المستمر مع إسرائيل، يعكس المحلل اللبناني “علي أحمد” هذا الرأي، ملاحظاً أنه رغم الغارات الإسرائيلية المتكررة على الأصول الإيرانية وتلك التابعة لحزب الله في سوريا على مدار العقد الماضي، كان رد الأسد بارداً في أحسن الأحوال، فقد تجنب النظام الرد الانتقامي أو إصدار إدانات قوية، مفضلاً الصمت أو بيانات غامضة، لتفادي أي تصعيد عسكري إضافي.
البقاء قبل المقاومة
إن إحجام النظام عن الانخراط الكامل في جهود الحرب التي يقودها “محور المقاومة” ينبع من استراتيجية تقوم على البقاء، بعد أكثر من عقد من الصراع الوحشي والانهيار الاقتصادي والإنهاك العسكري، أصبحت الأولوية لدى النظام الحفاظ على بقائه بدلاً من السعي لتحقيق طموحات إقليمية، وكما يوضح أحمد، فإن الأسد يعطي الأولوية للاستقرار الداخلي على حساب التحالفات الأيديولوجية، حتى لو أدى ذلك إلى الابتعاد عن حليفه الأساسي خلال الحرب.
توازن بين طهران وموسكو
يؤكد أحمد أيضاً على ضرورة الحفاظ على توازن حساس بين طهران وموسكو ودمشق، ففي حين تضغط إيران على النظام لدعم حزب الله وتسهيل نقل الأسلحة إلى لبنان، تدعو روسيا إلى ضبط النفس، خشية أن يؤدي أي تصعيد إلى صراع أوسع مع إسرائيل، ويرى بوتين، الحريص على حماية مصالحه الجيوسياسية في سوريا، أن منع تحويل مرتفعات الجولان إلى جبهة جديدة بين حزب الله وإسرائيل أمر أساسي.
حسابات مبنية على العجز
يشير تحليل أحمد إلى أن إحجام الأسد عن الانخراط ينبع من حسابات ترى أن سوريا “غير مؤهلة” لمواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، ويرى أن استمرار استهداف إسرائيل للأصول الإيرانية وحزب الله داخل سوريا زاد من مخاوف النظام، كما تشير تقارير إعلامية إسرائيلية إلى جهود مستمرة لاعتراض شحنات الأسلحة الإيرانية عبر سوريا، مما يوحي بأن العمليات الإسرائيلية في سوريا ستتواصل.
حسابات الخوف والانفصال التدريجي
أصبح تباعد الأسد عن “محور المقاومة” أكثر تبايناً، مع تركيز حزب الله بشكل أكبر على تعزيز جبهته الجنوبية في لبنان.د، وتشير التقارير إلى أن الحزب سحب أكثر من 700 من مقاتليه من سوريا لتعزيز مواقعه في لبنان مع تصاعد الصراع مع إسرائيل، ما ترك خلفه قوة صغيرة للحفاظ على مصالحه الاستراتيجية هناك.
تجسد هذه التطورات حسابات الأسد الحذرة، حيث يسعى النظام إلى الحفاظ على استقراره وتجنب الانجرار إلى صراعات مدمرة جديدة، وبين الضغوط الإيرانية المستمرة والمصالح الروسية الحذرة، يُظهر الأسد أن أولويته الأولى هي البقاء، حتى على حساب تحالفاته القديمة.
توازن معقّد
رغم ذلك، يبدو أن دمشق غير مستعدة لقطع علاقاتها تماماً مع “محور المقاومة”، لا تزال إيران تمارس ضغوطاً للسماح بمرور شحنات الأسلحة عبر الأراضي السورية، فيما يواصل النظام لعب دور متوازن بين المصالح المتضاربة، ويشير أحمد إلى أن الأسد “يلعب على كل الجبهات”، متعاوناً مع إيران بما يكفي لتجنب استعدائها، مع تجنب خطوات قد تؤدي إلى اندلاع صراع أكبر مع إسرائيل.
البقاء بأي ثمن
في نهاية المطاف، يعكس صمت الأسد وامتناعه عن اتخاذ موقف حيال الصراعات المستمرة في غزة ولبنان نظاماً يهتم أكثر بالحفاظ على استقراره الداخلي من التزامه الأيديولوجي تجاه محور المقاومة، ويتجلى ذلك بوضوح في تأخره في إصدار بيانات التعزية بعد اغتيال إسرائيل للأمين العام لحزب الله، “حسن نصر الله”، كما أشار موقع “صوت العاصمة”:
“جميع أطراف محور المقاومة، من إيران إلى العراق مروراً باليمن والفصائل الفلسطينية، أصدروا بيانات تعزية وإدانة بعد مقتل الأمين العام لحزب الله، باستثناء النظام السوري، ووزارة خارجيته وقيادته.”
فك ارتباط حذر
بالرغم من استمرار التحالفات مع إيران وحزب الله، تبنّى النظام استراتيجية فك ارتباط حذر، غير مستعد للمخاطرة ببقائه من أجل قضية قد تزج به في صراع جديد مدمر، وفي ظل تصاعد الهجمات الإسرائيلية وتزايد الضغوط الإيرانية، فإن الصمت المحسوب الذي ينتهجه الأسد يعكس أولوياته بوضوح.