انتشرت رائحة الخبز الطازج في السوق المزدحم بينما تجول الزوار من دمشق وحلب وحمص واللاذقية، منبهرين بما رأوه في شوارع إدلب. في قلب المنطقة التي كانت تحت حكم حكومة الإنقاذ السورية، كانت التباينات مذهلة. المحال مكتظة بالسلع – اللحوم، واللبن، والمخللات، وزيت الطهي – وهي مواد أساسية أصبحت نادرة في أماكن أخرى.
الشوارع النظيفة تعج بحركة مرور منظمة، تحت إشراف شرطة تنظم السير وسط أضواء لوحات إعلانية كهربائية وشبكة إنارة تعمل بكفاءة. اسطوانات الغاز، والديزل، كانت جاهزة للشراء دون الطوابير الطويلة التي باتت مألوفة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. الأفران تنتج الخبز دون انقطاع، والمنازل والمحلات التجارية تتمتع برفاهية الكهرباء والإنترنت بشكل مستمر.
في ظل المباني المدمرة وتحديات استضافة أكبر عدد من النازحين في سوريا، تجاوزت إدلب التوقعات وتحولت إلى واحة غير متوقعة من النظام والازدهار.
سقوط النظام وبداية جديدة
شكل سقوط نظام بشار الأسد نقطة تحول كبيرة لسوريا، حيث دخلت قوات إدارة العمليات العسكرية (CMO) دمشق منتصرة، منهية أكثر من خمسة عقود من حكم عائلة الأسد. ومع تلاشي نشوة سقوط النظام، ظهرت الحاجة الملحة إلى تشكيل حكومة جديدة لتتولى إدارة الدولة بسرعة.
لذا، أُسندت المسؤولية إلى حكومة الإنقاذ السورية (SSG)، التي خدمت المناطق المحررة في شمال سوريا منذ عام 2018، لتشكيل الحكومة الانتقالية السورية (STG). ومع سعي حكومة الإنقاذ لتوسيع نموذجها الإداري التكنوقراطي على المستوى الوطني، تبرز تساؤلات حول قدرتها على مواجهة التحديات ودور الجهات الإقليمية والدولية في هذه المرحلة.
نموذج الحكم التكنوقراطي
ظهرت حكومة الإنقاذ السورية كقصة نجاح غير متوقعة وسط المشهد السياسي السوري المجزأ. بقيادة تكنوقراط مثل محمد البشير، ركزت الحكومة على إعادة تأهيل البنية التحتية، والحفاظ على الخدمات العامة، وإدارة احتياجات سكان إدلب البالغ عددهم 4.5 مليون نسمة.
في منطقة دمرتها الحرب، تشرف الحكومة على النقل، وتنشيط الاقتصاد، والزراعة، والتعليم، وتجديد البنية التحتية والخدمات كإمدادات المياه والكهرباء، والصرف الصحي، وصيانة الطرق.
تعتمد الأنظمة التكنوقراطية، مثل تلك التي تطبقها حكومة الإنقاذ، على الخبرة والكفاءة الإدارية بدلاً من القيادة الأيديولوجية أو العسكرية في الحكم. تحت قيادة محمد البشير، وهو تكنوقراطي ذو خلفية في الهندسة الكهربائية وإدارة المشاريع، أولت الحكومة الأولوية للحلول العملية للمشاكل اليومية، مع التركيز على البنية التحتية والخدمات العامة وإدارة الاقتصاد.
يقدم هذا النهج تباينًا حادًا مع نظام الأسد، الذي اعتمد تاريخيًا على السيطرة الاستبدادية، وشبكات المحسوبية، وعسكرة المؤسسات المدنية.
تتميز الوظائف الإدارية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام غالبًا بالفساد وعدم الكفاءة والمحسوبية السياسية. في المقابل، عملت حكومة الإنقاذ السورية (SSG) على تقليل العوائق البيروقراطية، وتعزيز المساءلة، وإشراك المجتمعات المحلية في الحوكمة. على سبيل المثال، أظهرت الحكومة قدرتها على التكيف السريع مع التحديات، مثل استعدادها لتصحيح الأخطاء وتعديل السياسات، وهو ما يُعترف به على نطاق واسع كعلامة على الكفاءة التكنوقراطية. وقال صلاح غفير، العضو السابق في اللجنة الاستشارية التابعة لحكومة الإنقاذ، لموقع L24: “عندما كانوا يعدلون أو يصلحون شيئًا ما، لم يخشوا الاعتراف بالأخطاء”.
هذا النهج الشفاف يميز حكومة الإنقاذ عن المشهد السياسي المهيمن عليه الغموض والاستبداد.
شهادات من مراقبين دوليين
أكد المراقبون الأجانب هذا التميز. حيث قال نيكولاس هيراس، المدير التنفيذي في معهد New Lines لموقع L24: “هذه مساهمة لا يمكن إنكارها في سوريا. تقدم حكومة الإنقاذ نموذجًا لحكم تكنوقراطي ثوري يركز على الإدارة المدنية وخدمات البنية التحتية”. وأضاف هيراس أن نموذج حكومة الإنقاذ يمكن أن يصبح بالفعل مخططًا للحكم الوطني، شريطة أن يدمج المجتمعات السورية المتنوعة ويعطي الأولوية لإدارة غير طائفية.
أثر الجهود في إدلب
تظهر آثار هذه الجهود بوضوح في إدلب، حيث الشوارع نظيفة، وإشارات المرور تعمل، والخدمات البلدية تُدار بكفاءة – وهي خدمات غالبًا ما تكون غائبة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. وأشاد الدكتور حمزة المراوه، طبيب قلب في إدلب، بالتطور الذي شهدته المنطقة تحت قيادة حكومة الإنقاذ، مقارنًا ذلك بالإهمال الذي عانت منه المناطق تحت حكم الأسد.
من بركة إلى محيط: توسيع النموذج إداريًا على المستوى الوطني
يعد توسيع نموذج حكومة الإنقاذ إلى مستوى وطني تحديًا كبيرًا. يتطلب النسيج الاجتماعي المعقد في سوريا، المتميز بتنوعه الديني والإثني، نموذج حوكمة يعزز التشاركية والمصالحة.
وقال مصطفى منى، الناشط والمعلم المعروف في إدلب: “التحدي الأكبر هو إدارة تعايش المجتمعات المختلفة ومعالجة مظالم المتضررين من قمع نظام الأسد”. ومع ذلك، أشار منى إلى التقدم الذي أحرزته حكومة الإنقاذ في تعزيز التسامح، مستشهدًا بتحسن العلاقات مع المجتمعات المسيحية والدرزية في المناطق المحررة.
تُعد العقبات الاقتصادية من أبرز التحديات التي تواجه حكومة الإنقاذ السورية (SSG). تعتمد الحكومة على الضرائب والرسوم الإدارية المفروضة على الشركات والمزارعين والمعابر الحدودية مع تركيا، بالإضافة إلى الدعم الدولي المحدود الذي يصل إلى المنطقة والتعاون مع المنظمات الإنسانية. توسيع هذا النموذج المالي ليشمل المستوى الوطني سيتطلب استثمارات أجنبية ضخمة وتعاونًا دوليًا.
أشار نيكولاس هيراس إلى أن “سوريا ستحتاج إلى استثمارات أجنبية كبيرة لإعادة الإعمار، وهو ما يمثل تحديًا بسبب انعدام الثقة الإقليمية والدولية تجاه هيئة تحرير الشام (HTS).”
يزيد إرث الفساد وسوء الإدارة في عهد الأسد من تعقيد مهمة الحكومة الانتقالية السورية (STG). فقد ورثت الحكومة المؤقتة إرثًا من عقود الفساد والسرقة وسوء الإدارة. وأوضح غفير أن “الطوابير للحصول على الخبز، وانقطاع الكهرباء، ونقص المياه – هذا هو الإرث الذي تحاول حكومة الإنقاذ إصلاحه.”
تجاوز الشكوك وبناء الشراكات
رغم إنجازاتها، تواجه الحكومة الانتقالية السورية شكوكًا كبيرة، لا سيما بسبب ارتباطها بهيئة تحرير الشام. لمعالجة المخاوف المتعلقة بالاستبداد والطائفية، ينصح الخبراء بأن تعتمد الحكومة ممارسات حوكمة شاملة وشفافة.
وقال روبن ياسين-كساب، المؤلف المشارك لكتاب Burning Country: Syrians in Revolution and in War، لقناة الجزيرة: “يجب على هيئة تحرير الشام أن تُظهر أن هذا هو بداية عملية تشمل كل المجتمع السوري.” وأضاف أن اقتراح خارطة طريق للإصلاح السياسي، بما في ذلك الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 2254، يمكن أن يطمئن السوريين والمجتمع الدولي.
الشراكات مع الجهات الإقليمية والدولية تعد ضرورية لنجاح الحكومة الانتقالية. يمكن لهذه التحالفات أن تساهم في تأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار وتخفيف العقوبات مقابل تنفيذ إصلاحات سياسية ملموسة.
وتحدث الأب فادي عازار من كنيسة القلب الأقدس في اللاذقية مع موقع L24 عن أهمية الثقة والتشاركية، مشيرًا إلى أن هيئة تحرير الشام حسّنت من معاملتها للأقليات، وأعادت الممتلكات المصادرة وشجعت المسيحيين النازحين على العودة.
التوازن بين الحكم والشرعية
يتطلب الطريق إلى الأمام توجيهًا دقيقًا للتوترات الداخلية والخارجية. وأكد هيراس أن “قدرة حكومة الإنقاذ على قيادة عملية المصالحة الوطنية ستكون حاسمة.” وشدد على أهمية المحاسبة على جرائم الحرب وتعزيز الحوار بين الفصائل المختلفة.
مع استعداد الحكومة الانتقالية السورية لتولي القيادة الوطنية، يجب أن توازن بين كفاءة الحوكمة وجهود اكتساب الشرعية. وحذر محللون مثل توماس بيريت، من معهد الأبحاث ودراسة العالم العربي والإسلامي، من أن تمديد ولاية الحكومة المؤقتة إلى ما بعد تفويضها لمدة ثلاثة أشهر قد يقوض الثقة.
الشفافية في الحكم والالتزام بتقاسم السلطة هما المفتاح لتجنب اتهامات الاستيلاء على السلطة من قبل هيئة تحرير الشام.
إدارة متجددة دائمًا
تمثل الحكومة الانتقالية السورية نقطة تحول محتملة لسوريا، حيث تقدم نموذجًا للحكم التكنوقراطي يمكن أن يوحد البلاد. تعتمد قدرتها على توسيع هذا النموذج على تعزيز التشاركية، والتغلب على العقبات الاقتصادية، وبناء الثقة مع السوريين والمجتمع الدولي.
بينما يواجه السوريون إرث الحرب، فإن تجربة الحكومة الانتقالية السورية في الحوكمة، المكتسبة في منطقة إدلب، توفر لمحة عن مستقبل يتجاوز نظام الأسد – مستقبل يتمحور حول المصالحة والمساءلة والتنمية. يعتمد تحقيق هذه الرؤية على قدرة الحكومة الانتقالية السورية على التكيف والإصلاح وقيادة سوريا خلال أصعب مراحل انتقالها حتى الآن.