الهواء في داريا لا يزال يردد صدى الألم. يتذكّر حسام مكيّة، أحد الناجين من مجزرة داريا، ثقل المجرفة بين يديه والرعب الصامت أثناء دفنه لجيرانه وأصدقائه وعائلته في قبور محفورة على عجل.
وقال لقناة ليفانت 24 (L24): «لم تتم محاسبة مرتكبي هذه المجزرة حتى الآن. غياب العدالة أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية وزيادة المخاوف الأمنية». لكن هذا الألم أيضاً غذّى عزيمة جماعية: إصراراً على عدم التفريط بالمحاسبة وسط فوضى المرحلة الانتقالية.
ومع دخول سوريا مرحلة مستقبلية غامضة بعد انهيار نظام الأسد في 8 ديسمبر، يظل سؤال العدالة مطروحاً بقوة. هل يمكن لبلد عانى من القتل الجماعي والتعذيب الممنهج والاختفاء القسري أن يحافظ على التوازن الدقيق بين الانتقام والمصالحة؟ أم أن السعي لتحقيق العدالة سيصبح مصدراً لانقسامات جديدة، ويفتح الباب لدورة انتقام تحت راية جديدة؟
السعي وراء العدالة ومخاطر الانتقائية
بالنسبة لكثير من السوريين، تعني العدالة محاكمة مهندسي جرائم الحرب: الشخصيات التي نظّمت المجازر، وأصدرت أوامر بالهجمات الكيميائية، وأشرفت على غرف التعذيب في سجن صيدنايا. لكن عملياً، كانت العملية متخبطة وغير متسقة. فعلى الرغم من أن الحكومة الجديدة تعهدت بتبنّي العدالة الانتقالية، إلا أن حجم الفظائع السابقة فرض قرارات صعبة حول آلية المحاسبة.
وأوضح حسام علوش، الناشط السياسي السوري-الأمريكي، في بودكاست “المسلم المفكر”: «عندما وصلت الحكومة الجديدة إلى السلطة، أصدرت عفواً عاماً لكل من كان جزءاً من النظام، ودعتهم إلى تسجيل أنفسهم في أماكن متعددة في جميع أنحاء البلاد. في الواقع، من المستحيل معاقبة كل واحد منهم، بالنظر إلى أن هناك مئات الآلاف من الأشخاص الذين خدموا في أجهزة المخابرات والجيش التابعة للنظام ويُتهمون بالقتل والتعذيب وسوء معاملة السوريين».
وأكد علّوش على أن جهود المساءلة يجب أن تتركّز على المسؤولين الرئيسيين عن جرائم الحرب. وأضاف: “علينا أن نتّخذ قراراً. السوريون يجب أن يتّخذوا قراراً. الشخصيات القيادية التي نفّذت القتل والتعذيب الجماعي هي التي يجب أن تكون الهدف الأساسي”. ويعكس هذا النهج الواقعي الحاجة إلى التوازن بين العدالة والاستقرار، في ظل محاولات إعادة بناء سوريا.
الرقابة الدولية ودور المحكمة الجنائية الدولية
شكّل وصول مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية إلى دمشق في أوائل عام 2025 نقطة تحوّل محتملة. فعلى مدى سنوات، كانت المحكمة قد علّقت محاكمات جرائم الحرب في سوريا بسبب استخدام روسيا لحقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. إلا أنه، ومع رحيل الأسد، تعهّدت الإدارة الجديدة بالتعاون مع المؤسسات الدولية ومنحت المحكمة الجنائية الدولية صلاحية التحقيق في الجرائم التي ارتكبها النظام السابق.
لكن خبراء قانونيين حذّروا من أن الآليات الدولية وحدها لا تكفي. وقال فاضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، لموقع “L24”: “يجب أن تعمل العدالة الانتقالية على عدّة مستويات”. وحدّد أربعة أعمدة رئيسية لذلك: المساءلة الجنائية، لجان الحقيقة والمصالحة، تعويض الضحايا، والإصلاح المؤسسي. وأضاف: “نحتاج أن تعمل هذه الأعمدة معاً، لأن حجم الانتهاكات في سوريا هائل”.
قال عبد الغني: “سوريا ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، وبالتالي لا تملك المحكمة الجنائية الدولية (ICC) ولاية قضائية عليها”. وأضاف: “لكن المادة 12-3 من نظام المحكمة تتيح للدول غير الأطراف، مثل سوريا، قبول اختصاص المحكمة في ما يتعلّق بجرائم معينة”. وقد يساعد ذلك الإدارة الجديدة على تأكيد التزامها بالقانون الدولي وإرسال رسالة قوية لكل من الضحايا والجناة.
دروس مستفادة من رواندا، جنوب أفريقيا وتشيلي
اتبعت الدول الخارجة من النزاع مسارات مختلفة لتحقيق العدالة الانتقالية. في رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، تم اعتماد نظام محلي من المحاكم المجتمعية المعروفة بـ”الغاشاشا”، حيث أُتيح لمن ارتكبوا جرائم أقل خطورة الاعتراف بجرائمهم وطلب الصفح وإعادة الاندماج في المجتمع. ويرى البعض أن نموذجًا مشابهًا يمكن أن يُطبق في سوريا للجرائم الأقل خطورة، مع تخصيص المحاكمات الرسمية للجرائم الأشد.
أما لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا فقد قدّمت مسارًا آخر، إذ منحت العفو لمن قدّموا اعترافًا كاملاً بجرائمهم، مع ضمان توثيق الفظائع التاريخية والاعتراف بها علنًا. ويقول الخبراء إن اتباع نهج مماثل يمكن أن يسهم في إنشاء سجل وطني للانتهاكات في سوريا ويمنع الأنظمة المستقبلية من محو جرائم الماضي.
وفي تشيلي، بعد عهد بينوشيه، تم التركيز على كشف الحقيقة وتقديم التعويضات للضحايا. كما أُنشئت آليات إحياء ذكرى متعددة لضمان عدم نسيان فظائع الديكتاتورية. وبالمثل، في سوريا، يمكن أن يكون تحويل مراكز الاعتقال الشهيرة مثل سجن صيدنايا إلى مواقع تذكارية خطوةً مطروحة من قبل منظمات حقوق الإنسان.
معاناة الناجين
بالنسبة لعشرات الآلاف الذين عانوا تحت بطش الأجهزة الأمنية التابعة للأسد، العدالة ليست مفهومًا نظريًا، بل هي صراع يومي من أجل الاعتراف والدعم وجبر الضرر. وفي هذا السياق، تأسست مؤخرًا رابطة معتقلي الثورة السورية، على يد ناجين من سجن صيدنايا، بهدف أن تكون صوتًا لمن نجوا من “المسلخ البشري”. ومن بين أعضائها البالغ عددهم 1,472 شخصًا، يعاني 340 منهم من مرض السل، نتيجة الظروف المروّعة التي عاشوها في سجون الأسد.
وتشير هذه المعاناة إلى جانب حاسم من العدالة الانتقالية: إذ لا ينبغي أن تقتصر العدالة على معاقبة الجناة، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة تأهيل الضحايا. كما شدّد مكيّة على هذه الضرورة، مؤكّدًا أن العدالة لا ينبغي أن تقتصر على المحاكمات فقط. وبينما أقرّ بأهمية إجراء محاكمات عادلة وشفافة، شدّد أيضًا على الحاجة إلى آليات تعويض تساعد الضحايا على إعادة بناء حياتهم المدمّرة.
مستقبل هشّ
الطريق أمام سوريا مليء بالتحديات. ونظرًا لحجم الجرائم المرتكبة، فإن تحقيق المساءلة الكاملة يبدو صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا. لذلك، قد يكون الخيار الوحيد الممكن هو إعطاء الأولوية لمحاكمة المسؤولين عن أخطر الجرائم، والبحث عن آليات عدالة بديلة للتعامل مع مرتكبي الجرائم الأقل خطورة.
وعلاوة على ذلك، يجب على القيادة الجديدة في سوريا أن تتجنّب الوقوع في فخ الانتقام وخطر العودة إلى الانتهاكات الممنهجة. ووفقًا لعبد الغني، فإن ذلك يعتمد على إصلاح المؤسسات. وقال: “الهدف الرئيسي للإصلاح يجب أن يكون المؤسسات التي ارتكبت الانتهاكات: الجيش، والهياكل العسكرية، وأجهزة الأمن والمخابرات، والقضاء. يجب إعادة هيكلة هذه المؤسسات وإبعاد كل من ثبت تورّطه في الانتهاكات عن مناصبهم”.
وأكّد قائلًا: “من الضروري أن يتمتع الأشخاص المعروفون بنزاهتهم داخل هذه المؤسسات بالسلطة، وأن يكونوا خاضعين لقضاء قوي وفعّال”. كما حذّر عبد الغني قائلاً: “إذا لم نقم بالقضاء على الهياكل التي تمنحهم الحصانة، فستفقد المساءلة معناها”.
الأشهر المقبلة ستحدّد ما إذا كانت سوريا قادرة على إنشاء مسار عدالة موثوق وشامل. وفي الوقت الحالي، لا يزال الناجون مثل حسام مكيّة يتمسّكون بالأمل. وقال مكيّة: “نحن نتوقّع من الحكومة الجديدة أن تحقق العدالة للشهداء، لأنه من دون العدالة لا يمكن أن يكون هناك سلام”.