
تدخل جنوب سوريا مرحلة جديدة وخطيرة. فمنذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، أطلقت إسرائيل حملة عدوانية من العمليات العسكرية، والتوغلات البرية، وعمليات الاحتلال، وترهيب المدنيين، مما أدى فعليًا إلى إعادة رسم خارطة السيطرة في القنيطرة وما بعدها.
يوم السبت بعد الظهر، وبينما كان السكان يحتفلون بعيد الفطر في مبنى المحافظة المؤقت في بلدة سلام، قصفت المدفعية الإسرائيلية المنطقة، في أول استهداف عسكري مباشر للمدينة منذ انهيار نظام الأسد. وعلى عكس هجمات العيد في درعا، لم تقع إصابات، لكن التوقيت والمكان كانا واضحين: عمل محسوب لترهيب المدنيين.
فمنذ 10 فبراير فقط، نفذت إسرائيل 89 توغلاً بريًا، و29 غارة جوية وقصفًا مدفعيًا في جنوب سوريا، و35 غارة جوية أخرى في أنحاء البلاد، وفقًا للمحلل تشارلز ليستر. وفي الحميدية، استولت القوات الإسرائيلية على أراضٍ سورية كانت سابقًا جزءًا من منطقة عازلة تابعة للأمم المتحدة. وتشهد المنطقة الآن عمليات تجريف للأراضي الزراعية، وبناء حواجز تفصل بين ممتلكات السكان، مثل أرض المواطن عيد العلي، الذي يشاهد بعجز الجنود وهم يمنعونه حتى من رعي ماشيته قرب الجدار.
استراتيجية مقصودة
بالنسبة لإسرائيل، هذه الحملة تتجاوز الأهداف التكتيكية، فهي استراتيجية وأيديولوجية. كما أوضح الضابط الإسرائيلي البارز عميت ياغور في صحيفة “معاريف”، فإن الهدف هو إعادة تشكيل المنطقة برؤية ما بعد الحرب تقوم على الهيمنة العسكرية، والضغط الاقتصادي، وإعادة هيكلة جيوسياسية. وقد دعا إلى مواجهة تركيا بوصفها “إيران الثانية”، والسيطرة على جهود إعادة الإعمار في سوريا ولبنان عبر “خطة مارشال” تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج، وتحييد حزب الله ليس عسكريًا فقط، بل أيضًا سياسيًا وثقافيًا.
في جميع أنحاء الجنوب السوري، نصبت إسرائيل نقاط تفتيش، وقيّدت الحركة، وصورت بطاقات الهوية، وحدّت من الوصول إلى المستشفيات في حالات الطوارئ، وحتى قلّصت عدد المسموح لهم بحضور الجنازات. وعلى الرغم من نفي الجيش فرض “حظر تجول”، إلا أن السكان يعيشون ما يشبه ذلك.
قال تركي المصطفى، وهو مسؤول سابق في المنطقة: “هذا احتلال… ويتم تطبيعه”. ويمتد هذا التطبيع إلى أفعال رمزية، فخلال عطلة عيد الفصح اليهودي القادمة، تخطط القوات الإسرائيلية لفتح أجزاء من السياج الحدودي للمستوطنين للقيام بجولات في الأراضي السورية المحتلة. وتُنظم هذه الرحلات من قبل مؤسسات قومية بالتنسيق مع الجيش، ويتم تسويقها على أنها “تعليمية”. الرسالة واضحة: ما كان سوريًا أصبح الآن جزءًا من المشهد الوطني الإسرائيلي.
ثقافة الصمت
قال ناشط محلي في مجال حقوق الإنسان، فضل عدم الكشف عن هويته، إن ضعف التغطية الإعلامية والصمت الدولي يعكسان سياسة غربية متعمدة. وأضاف: “هذا ما تريده الولايات المتحدة… لا أحد يحمّل إسرائيل المسؤولية”.
إن أفعال إسرائيل في جنوب سوريا ليست حوادث عبثية، بل تمثل تحولًا متعمدًا في السياسة منذ هجمات 7 أكتوبر 2023 والحرب الإقليمية الواسعة التي تلتها. وكما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، لم تعد إسرائيل تكتفي بالدفاع، بل باتت تنشئ “مناطق عازلة” عبر الحدود: في غزة، وفي لبنان، والآن في سوريا.
وبات الجنوب السوري اليوم مليئًا بمواقع عسكرية إسرائيلية، وأبراج مراقبة، ودوريات. ويعيش السكان تحت مراقبة دائمة، محرومين من أبسط حقوقهم في التنقل، ويتعرضون للإذلال باسم “أمن إسرائيل”.