في أوائل ديسمبر، بدت الممرات التي كانت تعجّ بالحركة في مطار دمشق الدولي وكأنها مقبرة للطائرات، بقايا حقبة كانت فيها السلطة والثروة مركّزتين في أيدي قلة قليلة. ومن بين هياكل الطائرات الصدئة تقبع طائرتا إيرباص كان يستخدمهما بشار الأسد شخصيًا—رموز لنظام نهب ثروات البلاد لصالح نخبة حاكمة ضيّقة. ومع بدء الحكومة السورية في تفكيك الإمبراطورية الاقتصادية التي بناها الأسد ودائرته المقربة، يكشف المحققون عن شبكة واسعة من الفساد التي أبقت النظام قائماً لأكثر من عقد.
نظام بُني على الفساد والمحسوبية
في ديسمبر 2024، فرّ الأسد من سوريا، تاركًا وراءه نظامًا متجذرًا من المحسوبية الاقتصادية. أدت مغادرته إلى فتح تحقيق شامل في الثروات التي جمعها عدد من رجال الأعمال المقرّبين الذين ازدهروا في ظل حكمه. من بين هؤلاء سامر الفوز ومحمد حمشو، وهما اثنان من كبار رجال الأعمال الذين امتد نفوذهم إلى كل قطاعات الاقتصاد تقريبًا، من البناء إلى الاتصالات، ومن الصناعات الدوائية إلى الطيران.
كان كلا الرجلين قد فُرضت عليهما عقوبات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لدورهما في تمويل آلة الأسد الحربية. والآن، وبتوجيه من الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، بدأت لجنة خاصة العملية الشاقة لتتبع الأصول والاستثمارات والمعاملات المالية التي دعمت النظام السابق.
وفي الأيام التي تلت سقوط النظام، أمرت الحكومة الانتقالية آنذاك بتجميد الحسابات والعمليات التجارية المرتبطة بحلفاء الأسد. وقال وزير التجارة، ماهر خليل الحسن، لوكالة رويترز في أوائل فبراير: “سياستنا هي السماح للموظفين بمواصلة العمل وتوريد السلع إلى السوق، مع تجميد حركة الأموال مؤقتًا”. لكن، إلى جانب تجميد الأصول، تعمل اللجنة على التحقق من كيفية عمل هذه الإمبراطوريات الاقتصادية، وما إذا كان ينبغي محاسبة المتورطين قانونيًا.
قضية “السورية للطيران”: الخصخصة كغطاء للسرقة
قليل من القضايا تُجسد فساد النظام الاقتصادي كما فعلت محاولة بيع شركة “السورية للطيران” إلى شركة خاصة مشبوهة تُدعى “إيلوما”. ووفقًا لعبيدة جبرائيل، المدير السابق للشركة، فقد تم فصله هو ومسؤولون آخرون بعد رفضهم التوقيع على الصفقة، التي كانت ستمنح فعليًا عمليات شركة الطيران الوطنية بثمن زهيد.
أُسست “إيلوما” في عام 2022 برأسمال معلن قدره 100 مليون ليرة سورية (حوالي 7000 دولار حينها)، وقد قُدّمت على أنها شركة مدعومة من الإمارات تهدف إلى تحديث صناعة الطيران المتعثرة في سوريا. لكن جبرائيل وزملاءه سرعان ما اكتشفوا أن الشركة لا تملك أي دعم استثماري حقيقي، وكانت في الواقع خاضعة لسيطرة شخصيات من مكتب الشؤون الاقتصادية في القصر الجمهوري.
ومع انهيار حكومة الأسد، اختفى مالكو شركة “إيلوما” إلى جانب نحو 50 مليون دولار من الإيرادات التي جرى تحويلها من الشركة إلى حسابات خاصة. وأصبحت هذه القضية محورًا رئيسيًا لتحقيقات تسعى لكشف الطريقة التي كانت تُتخذ بها القرارات الاقتصادية في عهد النظام السابق—ومن الذي استفاد فعليًا منها. وفي قلب هذا النظام كانت هناك شخصية واحدة امتد نفوذها إلى كل قرار مالي كبير تقريبًا اتُّخذ خلال حكم الأسد.
مهندس اقتصاد الأسد
إذا كان هناك شخص واحد يُجسّد العمليات المالية للنظام، فهو يسار إبراهيم. كان رجل الأعمال البالغ من العمر 42 عامًا أكثر من مجرد مستشار اقتصادي؛ لقد كان مهندس استراتيجية الأسد للبقاء المالي. ومن خلال شبكة من الشركات الوهمية والمنظمات الواجهة، سهّل إبراهيم صفقات مكّنت النظام من الوصول إلى الأموال رغم العقوبات الدولية.
كان إبراهيم يسيطر على عشرات الشركات في مختلف القطاعات، من الاتصالات إلى السياحة، والعديد منها مسجل في لبنان وملاذات ضريبية خارجية مثل جزر كايمان. وفي عام 2021، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عليه عقوبات لاستخدامه إمبراطوريته التجارية في “إثراء الأسد بينما يموت السوريون من نقص الغذاء والدواء”.
لكن الشبكات المالية لم تكن محصورة فقط في غرف الاجتماعات والجداول المحاسبية. إذ يتضح من استخدام الأسد لقطاع الطيران السوري كأداة لتهريب العمليات السرية، أن هذا القطاع كان جزءًا لا يتجزأ من بنيته الاقتصادية. لقد أصبح التلاعب بصناعة الطيران رمزًا لمدى تداخل البنية التحتية للدولة مع منظومته المالية.
أجنحة الشام للطيران: أداة للتهريب لصالح النظام
لطالما لعب قطاع الطيران دورًا محوريًا في الشبكة المالية غير المشروعة للنظام، ولم تكن هناك شركة طيران أكثر مركزية من “أجنحة الشام”. تأسست الشركة عام 2007، وكانت في البداية تحت سيطرة رامي مخلوف، ابن خال الأسد، قبل أن تخضع لاحقًا لنفوذ مكتب الشؤون الاقتصادية في القصر الجمهوري.
على مدى سنوات، سهّلت أجنحة الشام نقل الميليشيات الموالية للنظام، بما في ذلك المقاتلون الإيرانيون الذين كانوا يسافرون بين دمشق وطهران. وفي عام 2020، استخدم قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، رحلة للشركة إلى بغداد قبل أن يُقتل في غارة أمريكية بطائرة مسيّرة. وقد فُرضت على الشركة عقوبات أمريكية في عام 2016، واتُهمت بغسل الأموال لصالح استخبارات النظام العسكرية.
ويقوم المحققون الآن بفحص ما إذا كان دور أجنحة الشام في غسل الأموال وتهريب الأسلحة قد تم تنسيقه على أعلى مستويات حكومة الأسد. ومع بقاء أصول الشركة سليمة حتى الآن، هناك تكهنات بأنها قد تُعاد هيكلتها تحت ملكية جديدة، رغم أن الأسئلة لا تزال قائمة حول ما إذا كان المتورطون في أنشطتها السابقة سيواجهون المحاسبة.
الطريق إلى الأمام: المحاسبة أم التكيّف؟
بينما تمضي الحكومة السورية قُدمًا، تواجه توازنًا دقيقًا بين محاسبة الشخصيات الفاسدة وضمان الاستقرار الاقتصادي. ويحذّر بعض المحللين من أن الحملة الشديدة على رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق قد تؤدي إلى نقص في السلع، خصوصًا الأساسية منها. بينما يرى آخرون أن الفشل في محاكمة المسؤولين عن الجرائم الاقتصادية سيقوّض ثقة الناس في الإدارة الجديدة.
وقال أيمن حمويّة، المسؤول الحكومي المشرف على السياسة الاقتصادية: “نحتاج إلى العمل ببطء، من خلال اللجان والتحقيقات، لتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة. فإذا أزلتَ هؤلاء من مواقعهم دون خطة، ينهار الاقتصاد”.
في المقابل، يصرّ شخصيات مثل المحامي أدور حشوة على أن المحاسبة يجب أن تكون أولوية. وقال لـ The Media Line: “يجب أن تبقى العقوبات على الأفراد الذين أثروا أنفسهم في عهد الأسد قائمة، لكن العقوبات العامة على سوريا كدولة يجب أن تُرفع الآن بعد زوال النظام”.
تمثل التحقيقات في شبكة الأسد الاقتصادية اختبارًا حاسمًا لمستقبل سوريا. إن تعافي البلاد من سنوات الفساد المنهجي لا يعتمد فقط على تفكيك هياكل السلطة القديمة، بل على ضمان ألّا يكرر الجيل الجديد من القادة الاقتصاديين أخطاء الماضي.