بقلم: عبيدة عامر غضبان
في الجزء الثاني من تحليله المتعمق لسوريا ما بعد الأسد، يستعرض عبيدة عامر غضبان، طالب الدكتوراه في دراسات الحرب في كلية كينغز لندن، المخاطر التي تواجهها إسرائيل الآن نتيجة لاستراتيجيتها التي تثير ردود فعل غاضبة من السكان المحليين وتركيا والقوى العالمية. بينما تناول الجزء الأول توغل إسرائيل وأهدافها، يحلل هذا الجزء كيف أن التكتيكات التي تستخدمها إسرائيل — من الغارات العسكرية إلى التحالفات مع الأقليات — قد تشعل حالة عدم الاستقرار التي تزعم أنها تسعى لاحتوائها.
_______________________________
في أوائل ربيع عام 2025، وبينما كانت الدبابات الإسرائيلية تجتاح القرى في جنوب سوريا وتحلق الطائرات الحربية في سماء تمتد بعيدًا خلف الجولان، لم يكن السؤال في العواصم الإقليمية عن سرعة تقدم إسرائيل، بل عن مدى قدرتها على التمسك بالأرض التي سيطرت عليها. ما بدأ كحملة خاطفة لتحييد التهديدات بعد سقوط الأسد، تحول إلى مغامرة أكثر تعقيدًا: حملة مفتوحة الأمد، متشابكة في دهاليز السياسات الطائفية، والتحالفات المرتبكة، وتداعيات دولية متزايدة.
تجاوز استراتيجي أم عقيدة أمنية؟
النهج العدواني الذي تتبناه إسرائيل في سوريا ما بعد الأسد ليس خاليًا من القيود الجادة والمخاطر المحتملة. ومع مرور الأشهر، تتعالى أصوات إقليمية ودولية — بل وحتى بعض الأصوات داخل إسرائيل — تحذر من أن هذه الاستراتيجية القائمة على التدخل العسكري المفتوح قد ترتد بنتائج عكسية خطيرة. أحد المخاوف الرئيسية يتمثل في أن إسرائيل قد تقوض الأهداف الأمنية التي تزعم أنها تسعى لتحقيقها.
فبمعاملتها للحكومة السورية الجديدة كعدو وانتهاكها لسيادة سوريا بشكل شبه يومي، تخاطر إسرائيل بتحويل جار هش إلى خصم مصمم على المواجهة. وقد حذرت مجموعة الأزمات الدولية من أن استمرار إسرائيل في هذا المسار قد يؤدي إلى “دفع سوريا نحو أحد السيناريوهات ذاتها التي تقول إسرائيل إنها تسعى لتجنبها”.
بعبارة أخرى، فإن الحملة الإسرائيلية المتشددة قد تدفع قادة سوريا — الذين لم تكن لديهم في البداية رغبة في الصراع مع إسرائيل — إلى التحالف مع إيران أو قوى معادية أخرى بدافع اليأس. وتؤكد مؤسسة ستراتفور الفكرية المرموقة هذا الرأي، مشيرة إلى أن الحملة العسكرية الإسرائيلية المفتوحة “ستزيد من ترسيخ المشاعر المعادية لإسرائيل” بين السوريين، و”قد تدفع سوريا في نهاية المطاف للعودة إلى أحضان حزب الله وإيران.” والجدير بالذكر أن القيادة السورية الجديدة، التي تهيمن عليها فصائل إسلامية سنية قاتلت الأسد لسنوات، لم تكن معادية لإسرائيل في البداية، بل كانت تركز على بناء الاستقرار الداخلي.
تركيا: مواجهة تلوح في الأفق؟
هناك أيضًا خطر أن يتجاوز التصعيد حدود سوريا. فقد تسببت تحركات إسرائيل بالفعل في رفع مستوى التوتر مع قوى إقليمية أخرى، خصوصًا تركيا وروسيا. فتركيا، التي تعد راعيًا رئيسيًا للمعارضة السورية وحليفًا مقربًا من الحكومة الجديدة، باتت تطرح نفسها كحامية لسوريا الجديدة.
بل إن أنقرة قد فكرت في نشر قواتها العسكرية في سوريا (مثل استخدام قواعد جوية في محافظة حمص) ضمن إطار اتفاقية دفاع مشترك مع حكومة الشرع. وهذا يضع طموحات تركيا في مسار تصادمي مع أهداف إسرائيل. ففي أواخر مارس 2025، قامت إسرائيل بقصف عدة قواعد سورية (مثل قاعدة T4 وتدمر وحماة)، في الوقت الذي كانت فيه فرق عسكرية تركية تقوم باستطلاع هذه المواقع لاستخدامها المحتمل — في رسالة واضحة لتركيا برفض تدخلها الأوسع.
أثار هذا التصرف قلق المسؤولين الأتراك؛ إذ اتهم وزير الخارجية هاكان فيدان إسرائيل بـ”تأجيج عدم الاستقرار الإقليمي”، مشيرًا إلى أن الغارات الإسرائيلية تعرقل جهود الحكومة السورية الجديدة في محاربة داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة. ورغم تأكيد فيدان على أن تركيا لا تسعى لمواجهة مع إسرائيل، إلا أنه حذر من أن تقويض أمن سوريا قد “يجر المنطقة بأسرها مجددًا نحو الفوضى”.
مثل هذا السيناريو قد يجر الولايات المتحدة (التي تربطها علاقات وثيقة بكلا الحليفين) وروسيا (التي لا تزال تحتفظ بقوات متمركزة في قواعد الساحل السوري) إلى أزمة أوسع. وقد بدأ بعض المعلقين الإسرائيليين يعبرون عن قلقهم علنًا من أن “الحدود بين إسرائيل وسوريا قد تتصاعد إلى صراع دولي”، قد يجر إليه تركيا بل وحتى الولايات المتحدة إذا لم تتم إدارته بحذر. وباختصار، قد تجد إسرائيل أن قدرتها على التحرك بحرية في سوريا مقيدة بضرورة تجنب اندلاع حرب أوسع مع تركيا أو قوى خارجية أخرى.
رد الفعل الدولي والعزلة الدبلوماسية
هناك قيد آخر يتمثل في مدى استدامة وشرعية الوجود الإسرائيلي في سوريا. حتى الآن، واجه التدخل الإسرائيلي ردود فعل دولية محدودة نسبيًا — على الأرجح بسبب انشغال العالم بأزمات أخرى وبسبب السقوط المفاجئ لنظام الأسد.
لكن مع استقرار الأوضاع تدريجيًا، قد تتصاعد ردود الفعل الدولية ضد التحركات الإسرائيلية الأحادية. فقد أدانت وزارة الخارجية السورية التحركات الإسرائيلية بوصفها انتهاكًا صارخًا للسيادة الوطنية، وطالبت مجلس الأمن الدولي بالتدخل. وإذا ما تمكنت الحكومة السورية الجديدة من الحصول على اعتراف دولي أوسع، فقد تجد إسرائيل نفسها تحت ضغط دبلوماسي متزايد للانسحاب.
كارميت فالينسي، الضابطة السابقة في الاستخبارات الإسرائيلية والمحللة السياسية، حذرت من أن وجودًا عسكريًا غير محدد الأمد في سوريا قد يكون ضارًا استراتيجيًا لإسرائيل. وأكدت على ضرورة أن تحدد إسرائيل شروطًا واضحة وجدولًا زمنيًا (لا يتجاوز ستة أشهر) للانسحاب من المنطقة العازلة السورية، خشية أن تتحول العملية إلى مستنقع يضر بمكانة إسرائيل الدولية. وتشير هذه الأصوات إلى أن السياسة الحالية قد تفوت فرصة دبلوماسية سانحة.
المقاومة على الأرض: أصداء من الماضي
علاوة على ذلك، تواجه تكتيكات إسرائيل على الأرض حدودًا مع تصاعد المقاومة المحلية. فكلما تعمقت إسرائيل في الأراضي السورية، زادت احتمالية أن تحمل الفصائل السورية — حتى غير المرتبطة بإيران — السلاح ضد التوغل الإسرائيلي.
ويُعد الحادث الدموي في أواخر مارس، حينما واجه سكان القرى في جنوب سوريا القوات الإسرائيلية، مؤشرًا على تصاعد مشاعر السخط. إذ قد تبدأ مهمة الانتشار الإسرائيلي الطويلة في سوريا في التشابه مع احتلالها لجنوب لبنان خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حينما تحولت منطقة الأمن المفترضة إلى ساحة حرب منخفضة الحدة مع المقاتلين المحليين، وأفضت في النهاية إلى صعود حزب الله.
استراتيجية تتعارض مع ذاتها
إن الاستراتيجية الأمنية التي تتبعها إسرائيل في سوريا ما بعد الأسد تُعد مقامرة عالية المخاطر. فقد حققت بعض الأهداف التكتيكية العاجلة — مثل القضاء على بقايا قوات الأسد وردع التوسع الإيراني — لكنها جاءت على حساب تقويض السيادة السورية وتوتير العلاقات الإقليمية. وقد بدأت التناقضات الداخلية لهذه الاستراتيجية تظهر إلى العلن.
فإسرائيل تسعى إلى حدود مستقرة، ومع ذلك فإن أفعالها تزعزع استقرار المناطق الحدودية السورية. وهي ترغب في إبعاد إيران وحزب الله، لكن عدوانها قد يدفع سوريا إلى دعوتهما مجددًا طلبًا للمساعدة. كما تريد أن تظهر بمظهر حامي الأقليات، غير أن انخراطها في السياسات الطائفية قد يؤجج النزاعات الطائفية.
وهكذا، فإن الاستراتيجية التي وُلدت بدافع الخوف من سوريا عدائية، قد تكون في النهاية تعيد إحياء التهديدات ذاتها التي كانت إسرائيل تأمل بالقضاء عليها. فقد تتوسع أفعال إسرائيل في سوريا ما بعد الأسد إلى صراع أوسع وغير قابل للتنبؤ — وهو تمامًا ما كانت تسعى إلى تجنبه منذ البداية.