كانت الجثث ملقاة في الشوارع لأيام، محرومة من مراسم الدفن. تجمع الناجون معظمهم من النساء والأطفال، في منازل متضررة فيما كان مسلحون ينهبون ما تبقى. في شهر آذار/مارس، شهدت مناطق من الساحل السوري، أكبر موجة عنف منذ سقوط نظام الأسد، وهي فظائع تقول الأمم المتحدة أنها قد ترقى إلى جرائم حرب.
ومع ذلك، وفي تطور غير مسبوق، خلصت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة إلى أنه لا يوجد دليل على أن الحكومة السورية الجديدة أمرت بعمليات القتل أو سمحت بها. بل إن التقرير المؤلف من 66 صفحة، الصادر في 14 آب/أغسطس، أشاد بتعاون السلطات السورية غير المسبوق مع المحققين الدوليين، مشيراً إلى “وصول غير مقيّد” إلى المناطق المتضررة في اللاذقية وطرطوس، ومواقع المقابر الجماعية، والمسؤولين الحكوميين.
وقال إبراهيم العلبي، المستشار القانوني لوزارة الخارجية السورية، في مقابلة مع “Levant24”: «إنه منعطف تاريخي. لم يحدث في تاريخ سوريا الحديث أن سمح نظام الأسد، أو حتى اعترف، بوجود لجنة تحقيق. أما سوريا الجديدة… فقد سمحت لها بالوصول الكامل للقاء الضحايا والناجين، وزيارة مواقع الدفن، والتحدث مع المسؤولين. هذا لم يحدث من قبل».
تطابق النتائج يعزز المصداقية
تتطابق استنتاجات الأمم المتحدة بشكل وثيق مع نتائج لجنة التحقيق الوطنية المستقلة التي أمر بتشكيلها الرئيس أحمد الشرع في غضون أيام من أحداث آذار/مارس. وقد ضمّت هذه اللجنة قضاة ومحامين وممثلين عن المجتمع المدني، وحددت نحو 300 مشتبه به من الفصائل المرتبطة بالحكومة المؤقتة، و265 آخرين مرتبطين ببقايا موالية للأسد. وقد أُحيل كثير منهم إلى النائب العام وجرى توقيفهم.
وقال العلبي إن تطابق النتائج يعزز مصداقية آليات التحقيق الوطنية في سوريا. وأضاف: «كثير من المنظمات حاولت التقليل من شأن لجنة التحقيق الوطنية، لكن نتائجها جاءت مطابقة لما توصلت إليه الأمم المتحدة. هذا يثبت أننا نبني مؤسسات أقوى بعد سنوات من تفكيكها على يد نظام الأسد».
عمليات قتل طائفية وسط فوضى ما بعد الحرب
يوضح تقرير الأمم المتحدة أن أعمال العنف بدأت بعد عمليات اعتقال نفذتها القوات الحكومية في 6 آذار/مارس، ما أثار رداً انتقامياً من مقاتلين موالين للأسد. وقد أسفر التصعيد عن مقتل نحو 1,400 شخص، بينهم نحو 100 من النساء والمسنين والأطفال وذوي الإعاقة.
وشهد شهود عيان أن رجالاً جرى فصلهم عن النساء والأطفال بعد تحديد هويتهم كعلويين، ثم أُعدموا. وتركَت الجثث في الشوارع أو دُفنت في مقابر جماعية من دون توثيق. كما غصّت المستشفيات — التي كانت متضررة أصلاً من هجمات سابقة — بالجرحى والقتلى.
وبينما حاولت بعض القوات الحكومية وقف العنف وحماية المدنيين، ارتكب آخرون -ولا سيما المقاتلون الجدد المنضمون من فصائل مسلحة- أعمال قتل وتعذيب ونهب. وأكدت الأمم المتحدة أن هذه الأفعال ارتكبها أفراد أو مجموعات صغيرة، وليست جزءاً من سياسة رسمية للدولة.
التضليل ومعركة الحقيقة
سلّط كل من الأمم المتحدة والمسؤولين السوريين الضوء على الأضرار التي تسببت بها التقارير المبكرة وغير الموثقة. ورحّب الشيباني باعتراف اللجنة بانتشار «التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال هجمات آذار/مارس، مما أعاق بشكل كبير قدرتنا… على تحديد الجرائم الفعلية».
وانتقد العلبي بعض التغطيات الإعلامية لتجاهلها السياق أو استعجالها في إطلاق الاستنتاجات. وقال موجهاً حديثه لوسائل إعلام مثل رويترز التي ألمحت إلى تورط الدولة: «رجاءً لا تجعلوا عملنا أصعب. إذا كانت طاقتنا تُستنزف في تفنيد التضليل، فإن ذلك يشتتنا عن التركيز على ما هو أهم، الضحايا، والعدالة، والحقيقة».
دعم دولي للإصلاحات
أوصت اللجنة المجتمع الدولي بدعم سوريا في تنفيذ المزيد من الإصلاحات، لا سيما في القطاع الأمني. ومع وجود أكثر من 100 ألف مقاتل من فصائل متعددة، يبقى توحيد القوات تحت قيادة موحّدة تحدياً كبيراً، بحسب العلبي.
وقال: «هذه العمليات تستغرق وقتاً أطول مما مرّ حتى الآن. نحن على بعد ثمانية أشهر فقط من سقوط النظام. إنها عملية طويلة… لكننا سعداء بأن اللجنة تعترف بالتحديات وتبدي استعدادها للعمل معنا».
اختبار لسوريا الجديدة
يحذر تقرير الأمم المتحدة، كما فعلت لجنة التحقيق الوطنية من قبله، من أن المساءلة يجب أن تشمل جميع الجناة «بغض النظر عن الانتماء أو الرتبة». ويدعو إلى إبعاد المشتبه بارتكابهم انتهاكات عن الخدمة الفعلية، وتوسيع عمليات التدقيق في اختيار المجندين، وتسريع تنفيذ الإصلاحات القضائية.
وقد تعهّدت الحكومة بالتحرك. وكتب الشيباني إلى الأمم المتحدة: «نجدد التزامنا بالتعاون البنّاء مع مكتبكم ومع المجتمع الدولي… الرحمة للشهداء، والقوة لنا جميعاً في السعي لتحقيق العدالة».
وبالنسبة لقادة سوريا، فإن الرهان يتجاوز معاقبة المسؤولين عن مجازر آذار/مارس، ليصل إلى إثبات — للسوريين والعالم — أن الدولة الخارجة من أكثر من عقد من الحرب يمكن أن تكون شفافة وخاضعة للمساءلة وموحّدة.
كما قال العلبي: «الرحلة ستكون معقدة… لكنها رحلة نخوضها بكل فخر وبذل».