
شكّل القصف الإسرائيلي الأخير قرب القصر الجمهوري السوري نقطة تحوّل في الصراع الطويل على النفوذ داخل سوريا، حيث كشف عن تعقيد متزايد في الديناميكية التركية-الإسرائيلية. وعلى غير العادة، لم تصدر أنقرة أي رد فوري على الهجوم — وهو صمت أثار جدلاً بين المحللين حول احتمال تغيّر في أولويات تركيا ونهجها تجاه المنطقة.
منذ سقوط نظام الأسد، أصبحت سوريا ساحة صراع للمصالح المتنافسة بين إسرائيل وتركيا. فقد اتهمت تل أبيب أنقرة بمحاولة توسيع وجودها العسكري، وهو ما نفاه المسؤولون الأتراك. وازدادت حدة التوتر بعدما استهدفت القوات الإسرائيلية مواقع في وسط سوريا، يُقال إن طائرات استطلاع تركية كانت قد مسحتها مسبقاً بغرض إنشاء قاعدة عسكرية. وعلى إثر ذلك، أفادت تقارير بأن مسؤولين من الجانبين التقوا في أذربيجان لمناقشة آليات منع التصعيد. غير أن المراقبين يشيرون إلى تحوّلات استراتيجية أعمق تقف خلف الموقف الإسرائيلي التصعيدي.
مناورات استراتيجية في نظام إقليمي جديد
انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرًا العمليات الإسرائيلية، واصفًا إياها بأنها تهديد للاستقرار الإقليمي. ونقلت وكالة الأناضول عنه قوله: “إسرائيل منزعجة من قوة تركيا في المنطقة”. وفي الوقت نفسه، أفادت صحيفة جيروزاليم بوست بأن طائرات تركية حلّقت فوق المنطقة أثناء الغارة الإسرائيلية على دمشق، في رسالة محسوبة دون مواجهة مباشرة.
ووصف الباحث علي أسمر التحركات الإسرائيلية بأنها “ضجيج استراتيجي” يهدف إلى إرباك تنامي علاقات أنقرة مع القيادة الجديدة في سوريا. وأضاف أن إسرائيل تسعى لإعادة فرض حضورها في مشهد إقليمي يتغير، لا سيما مع تقليص الوجود العسكري الأمريكي في سوريا. وقد أكد المتحدث باسم البنتاغون، شون بارنيل، خططاً لتخفيض عدد القوات الأمريكية إلى أقل من ألف جندي خلال الأشهر المقبلة.
حذر متبادل وخيوط دبلوماسية
رغم تصاعد التوتر، يبدو أن تركيا وإسرائيل حريصتان على تجنّب الانزلاق إلى صراع مفتوح. وصرّح فراس فحّام من مركز “أبعاد” لموقع عربي21 أن أنقرة تخشى منح إسرائيل ذريعة للتصعيد، مفضّلة التنسيق مع واشنطن. وقال: “أي ردّ ميداني قد تستغله إسرائيل لتبرير هجمات أوسع”.
ويتماشى هذا الحذر مع حسابات جيوسياسية أوسع. إذ لعب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دورًا خلف الكواليس في محاولة لتهدئة التوتر، داعياً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى “التصرّف بعقلانية” في تعامله مع أردوغان. وتُعزى قدرة ترامب على الحفاظ على توازن هشّ جزئيًا إلى علاقته الشخصية القوية مع الرئيس التركي، رغم انزعاج مسؤولين إسرائيليين من الدعم الأمريكي لنفوذ أنقرة المتزايد في سوريا.
الفراغ والدوامة
مع انسحاب القوات الأمريكية، تتسابق كل من تركيا وإسرائيل لملء الفراغ الناجم عن هذا الانسحاب. وقد حذّر مقال في مجلة فورين أفيرز، نقلاً عن باحثين من معهد واشنطن، من أن غياب التنسيق قد يؤدي إلى تفاقم التوترات. ودعا كاتبو المقال إلى ضبط النفس، مقترحين على إسرائيل “تجنّب تحويل تركيا إلى عدو” والسعي بدلًا من ذلك إلى وضع خطوط حمراء لتفادي سوء التقدير.
وفي ظل استمرار الغموض حول مستقبل سوريا السياسي، تبقى احتمالات الأخطاء الاستراتيجية مرتفعة. ومع ذلك، فإن المحادثات السرية والإجراءات المدروسة تشير إلى أن أنقرة وتل أبيب تفضّلان التنافس على المواجهة — في الوقت الراهن.